مصر الطقس من افاق عربية

معلومة عن وسائل التباعد الاجتماعي

لست من أنصار موجة الردّة عن مواقع التواصل الاجتماعي وكأنها شر مُقيم لا بد من تجنبه والابتعاد عنه. إنما الأمر أولويات مرتبة على سلّم حياة كل شخص ومَفاصل مُجريات أيامه. فمثلاً، عندما يموت أحد أقاربك، لا يمكن أن تقول لحظة انتظروا قليلاً أريد أن اكتب منشوراً مهماً على فيسبوك. أو تغريدة جميلة على تويتر!

هنا يوجد أولوية قصوى، تتجلى بموت أحدهم. لذلك يصبح التواصل أمراً ثانوياً يُنفّذ لاحقاً.

نعمم المثال أكثر، لا يمكن أن تكون مستغرقاً في عمل مهم تحبه، فتلهيك وسائل التواصل عنه! إلا إن كان عملاً غير محبذ لك. عندها سواء بوجود هذه الوسائل أم لا، ستتهرب منه لأنك أساساً لا تطيقه. أي أنها لعبت هنا دوراً مساعداً فقط.

لا يمكن أن تعيش أجواء دراستك الجامعية السعيدة وقراءة محاضرات لطيفة ومن ثم تتركها لترى ماذا نشر فلان وماذا غرّدت فلانة. أولويتك الدراسة. التواصل هنا أمر ثانوي.

لا يمكن أن تعود من النادي الرياضي متعباً وتقرر أن تجلس ساعات مطولة على إنستغرام وغيره. أنت بحاجة لكمية من البروتين والراحة. وليس لانستغرام وصوره.

وهلم جرّاً على نمط هذه الأمثلة التي يمكننا أن نختصرها بعبارة محددة واضحة، هي أنّه: طالما لديك أمور مهمة يجب عليك فعلها فلن يلهيك شيء. أما لو كانت بالأصل حياتك فارغة أو لا تطيقها فطبيعي عندها أن تحاول التهرب، ولعل وسائل التواصل تفتح لك باباً عريضاً لذلك. فالأمر مرتبط بك لا بها.

من ناحية أخرى وسائل التواصل والمراسلة الفورية مهمة جداً خصوصاً في وقتنا الحالي، معظمنا يمتلك أخ أو أخت في أوروبا، قريب ما في كندا، زوج هنا، زوجة هناك. مبثوثين في بقاع هذا العالم ومتناثرين به. كيف تريد أن تتواصل معهم بغير وسائل التواصل هذه؟

ثم إنّ هذه التقنيات موجودة منذ القدم، الفرق الوحيد الآن أنها امتلكت شكلاً حديثاً سريعاً. إذ كان الاتصال الخليوي هو السائد قبل ثورة وسائل التواصل الحديث. ومن قبل الخليوي كان لدينا الهاتف الأرضي الثابت. ومن قبلها جميعاً مع القرن الماضي كانت هناك البرقيات وصناديق البريد. وفي الأزمان الغابرة، كان هناك المرسال البشري الذي يذهب كل بضعة شهور على متن قافلة إلى مكان ما فيسأل عن أحوال الناس وينقل إليهم أنباء مَن يهتمون لأمرهم وهكذا.

بمعنى أن التواصل كان دائماً موجوداً، الفرق الآن أنه أخذ شكلاً حديثاً سريعاً آنياً. تخيّل مثلاً أنك الآن في عصر صناعة السجاد بشكل آلي تريد أن تصنع سجادة بشكل يدوي! نعم، كان سائداً لفترة ما، لكن الآن الزمن تغير وأصبح كل شيء حديثاً. أن تطالب بتطبيق أساليب قديمة على أزمنة مُستجدة أمر صعب، وإن حدث سيكون بطيئاً نادراً وغير متداول.

تجارة مواقع التواصل كغيرها من التجارات، تسعى وراء الربح مقابل تقديم خدمات. هي تجمعك بمن هم بعيدين عنك، لكنها بنفس الوقت تحصد الأموال على رأسك. وهو أمر عادل نوعاً ما. تريد مثلاً أن تحصل على ميزات وخصائص دون أن تدفع تكاليف ذلك من خصوصيتك وبياناتك؟ لا يا عزيزي لا، ما هكذا تورد الإبل ولا تمشي الأمور.

كما يمكنك أن تستغل هذه الوسائل لجعل الذكريات أكثر حدّة وقسوة. مثلاً، يمكنك الآن أن تسجل صوت أمك وأبيك لمدة طويلة وأن تخزن كل رسائلهم الصوتية في هاتفك. حتى بعد عمرٍ طويل أتمناه للجميع، تتذكر كيف كانت أمك تتكلم معك، وكيف كان أبيك يرسل تسجيلاته للاطمئنان عليك.

ألا ترَ؟ نعم هي ذكريات حادة ومؤلمة، لكنها قد تذكرنا بأصوات مَن نحب، بعد أن يرحلوا بزمن بعيد جداً…

شخصياً، أستخدم نوع من الحيل النفسية أو الـ Hack من أجل تجنّب ضياع أكبر قدر ممكن على هذا المشاعات الاجتماعية. أحد هذه الحيل هو أنني أتجنب بشكل دائم الدخول إلى صفحة الـ Home الرئيسية، في أي موقع اجتماعي. لأن هذه الصفحة هي الدوامة التي تستدرجك إلى داخلها وتسرق وقتك.

بدل ذلك، اصنع اختصارات لصفحتك الشخصية والصفحات والمجموعات المهمة التي تدخل إليها بشكل يومي لأسباب معينة كالعمل وغيره. أما أن تجعل الصفحة الرئيسية هي ساحتك الأولية، فأنت أمام كارثة، لأن هذه الصفحة حصراً مصممة ومبرمجة بشكل يلفت انتباهك ويجعلك تبقى أكبر فترة ممكنة في الموقع.

ناهيك طبعاً عن مستوى التشتت والبلاهة التي تحاول هذه الصفحة أن تزرعه في عقل المستخدم من خلال تقديمها لخليط غير متجانس. فتجد مثلاً صورة صديقك الشخصية، مع مقال بعدها، مع Mention من صديق آخر، مع صورة لإعلان ما، مع فيديو من مسلسل مروّج له، وهكذا..

من المفترض أن يُحدث العقل السليم ردة فعل تجاه هذه الأمور غير المرتبطة منطقياً. فما دخل صورة صديقك في مطعم مع مقال طبي يتحدث عن الحكة الأنفية؟ لا شيء. إلا أن الفيسبوك وتويتر وسائر صفحات، تقدم لك في الـ Home هذا الخليط العجيب. فيصبح الدماغ أمام حالة تبلد واعتياد على عدم التجانس. فتعتاد حينها على ارتباط عدة أمور غير متناسقة، وكأنه أمر عادي جداً. فتزيد بلاهة المستخدم، ويرتفع تشتته، ولا أعتقد أن هناك أفضل من زبون أبله مشتت يدفع المال يضيع وقته. لا يمكن أن يكون هناك أفضل من هكذا شخص يربط اللامرتبط مع بعضه.

منذ مدة قرأت في أحد الإحصائيات أن 90% من المعلومات الحسية الواردة إلى الدماغ هي معلومات مهملة لا قيمة لها. بمعنى أن دماغك يتلقى يومياً كثيراً من الواردات البصرية والسمعية وغيرها، كنمرة سيارة ما في الطريق، صوت بائع متجول، لون عيون موظف تعاملت معه في دائرة رسمية، اسمه، كيفية تسريح شعره، شكل بناء ما، رائحة غرفة الانتظار في عيادة طبيب.. إلخ. هذه الأمور يتلقاها الدماغ لحظياً، لكن فيما بعد يتخلص منها.

مواقع التواصل خصوصاً المشاعات الكبرى (فيسبوك، تويتر) تزيد من المعلومات غير المهمة لك. تعليق لصديق، لايك لصديق. صورة لصديق.. إلخ. تجد نفسك أمام كم أكبر من المعتاد من هذه المُدخلات الحسية غير المهمة، فيحتاج حينها الدماغ لفترة فلترة أكبر من المعتاد، كونه أصبح يعالج بيانات أكبر من السابق.

لو أردت أن أوجز الكلام في النهاية، فهو أن كلا الموقفان مخطئان. من يقول وسائل التواصل مفيدة هو مخطئ. ومن يقول وسائل التباعد سيئة مخطئ. الأقرب للصحة أنه هذه الوسائل إنسانية تعكس شخصيات أصحابها. فعندما تكون لديك أولويات مهمة لن تضيع الكثير من الوقت عليها، بل تستثمرها في عملك. أما عندما تكون حياتك من الأصل غير مهمة وما تمارسه من عمل ودراسة أمور لا تطيقها فطبيعي أن تحاول التملّص منها لاجئاً لوسائل التواصل تلك.

مثلاً، أنا لولا هذه الوسائل لما استطعت أن أتحدث مع رئيسة تحريرنا نجوى لكي أقول لها أني رفعت مقالاً جديداً لا بد من مراجعته. فلو لم أفعل لبقي في قائمة الانتظار إلى يوم يبعثون!

ألا ترَ؟ هي مفيدة كعمل وكتواصل مع أقربائك وأحبائك البعيدين. لكن إن كانت أساساً حياتك صعبة ومجوفة فحينها لا أحد ينكر أن هذه الوسائل ستزيد تشتتها وتباعدها. لكن تذكر أن هذا سيحصل بها أو بدونها. فهي نتيجة لحياة فارغة وليست سبباً لأن تكون حياتك فارغة!