في بيت لبناني تراثي في جبيل، يعيش الفنان الطبيب جورج روحانا مع عائلته. تشعر في بيته أنك في منزل فنان موهوب، بدءاً من الحدائق المزروعة ورداً وشجراً مثمراً، إلى هندسة الدار، ومقتنياتها الفنية المتعددة.
ولد روحانا في جبيل التاريخية. يقول: «كانت طفولتي على ميناء جبيل بين حفريات الآثار في حرم القلعة. مسارح اللعب كانت بين الحفريات. طفولة غنية أدركت قيمتها عندما كبرت. مكان مثل جبيل القديمة يعطيك الجذور. تجذّرت في هذه الأمكنة، من إسكلة الميناء حتى مقابر ملوك الفينيقيين. ربما في اللاوعي، يعطيك هذا الأمر مساحة من التأمّل في الماضي والمستقبل».
شغف روحانا بالفن بدأ في سن مبكرة. «ما زلت أحتفظ بلوحة رسمتها في سن العشر سنوات». في الثامنة عشرة من عمره، سافر جورج إلى باريس للتخصص. كان ذلك في أوائل الحرب الأهلية في السبعينات. في فرنسا «تذوق» الفن. يقول عن تلك المرحلة: «تكتسب دون أن تدري. تتعلم دون أن تقصد». لم يترك متحفاً في باريس لم يزره هو وزوجته الفنانة ومتذوقة الفن والطبيبة أيضاً. وفي سفراتهما اللاحقة كانت أولى الأماكن التي يزورانها: المتاحف والمعارض.
تخصّص روحانا في الطب العام ثم في التشخيص الشعاعي.
عاد إلى لبنان في أواخر العام 1991. كان لبنان قد بدأ ينهض من الحروب المدمّرة التي توالت عليه، وكانت قد بدأت عملية الإعمار. الحركة الفنية كانت خجولة وبدأت ترتسم ملامحها من جديد. في هذه الحقبة بدأ يقتني اللوحات من المعارض أو المزادات والأفراد. واكب هذه المرحلة بعودته إلى الرسم بصورة منتظمة ولكن متباعدة حتى سنة 2019. في أواخر تلك السنة بدأ يرسم بشكل يومي تقريباً وما زال.
حين أسأله عن تأثره بالفنان الأميركي باسكيا Basquiat يقول: «صحيح لقد تأثرت به. فرسمه هو تعبير عفوي عن مكنونات القلب والعقل. وأرى في رسمه ثورة على القواعد الركيكة. باسكيا هو عصامي وليس أكاديمياً. إخترت هذا التوجه لأنني أرى ذاتي في هذا النوع من الرسم». ببساطة هو يدرس الفكرة، يحضّرها على croquis ويرسمها بسهولة متناهية دون تفكير. «إنني أضع من ذاتي في رسومي».
يعترف أنّه ينتمي إلى «حركة باسكيا» ولكن لا ينقل عنه. «أضع لمساتي الخاصة بأفكار جديدة حديثة غير أفكار السبعينات والثمانينات». يرى أنّ هذا النوع من الأسلوب يلائم عصرنا الحالي. وهو جاذب للشباب الحديث. «أعتقد أنّ الفنان يجب أن يماشي عصره».
يقول: «جميل جداً أن ترسم، ولكن إذا كان رسمك غير مستحب أو غير جاذب أو معاكساً لتطلعات الجيل الحديث يبقى رسماً جميلاً لك فقط، ولن تستطيع مشاركته مع الآخرين. الفن هو عطاء ومشاركة».
يرى أنّ على الفنان أن يضيف جديداً على تيار الفن الذي يتبعه لكي يترك بصمته للذين يأتون بعده، وهذا ما يجعل الفنان مميزاً.
«أضفتُ في لوحاتي رسالة أو قصة أو مشهداً من فيلم أو مقطعاً من أغنية ورسمتها بشكل تعبيري جديد».
يصنّف فنه ضمن الفن التعبيري الحديث Neo-expressionism .
«أريد من المقتني للوحاتي أن يرتاح عندما ينظر إلى اللوحة. راحة داخلية. هذا ما أشعر به أنا عندما أنتهي من لوحة».
هل رسم اللوحة الواقعية؟ «لقد رسمت رسومات واقعية جميلة جداً، ولكن لم أجد نفسي فيها. كانت بعيدة من مشاعري وعمّا أطلبه. أرسم ما أحسّ به. في الكثير من رسوماتي هناك فكرة أو رسالة ما. كما رسمتُ الكثير من اللوحات مستوحاة من موسيقى أحبها. موسيقى الجاز والبلوز والكاونتري».
عن الحركة الفنية في لبنان يرى أنّها ناشطة جداً في هذه الأيام، بالرغم من الضائقة الاقتصادية والأوضاع العامة في لبنان والعالم. ويعزو ذلك إلى عوامل عدة، أولها أنّ اللبناني مثابر وطموح ومبدع وصلب. والفن اللبناني عانى مثل غيره من القطاعات أخيراً، ولكن الفنان اللبناني عنده تحدي الخروج من الأزمة.
العامل الآخر هو عامل الاستثمار. فالفن هو ملاذ اقتصادي في أيام الانهيارات المالية. يكفي أن نراجع الحركة الاقتصادية الفنية في العشرين سنة الماضية، نرى بوضوح التطور التصاعدي للسوق الفنية في لبنان والعالم. وخصوصاً الانفتاح أخيراً للسوق الآسيوي. «عندي كل الأمل في مستقبل الفن اللبناني الحديث».
يعمل روحانا على تطوير أسلوبه بصورة دائمة. فهو أسلوب مؤهّل لأن يتطور. «أتابع كثيراً الحركات الفنية في العالم والميول. أعتقد أننا على الطريق الصواب في لبنان. إذا كنا نريد ان يتطور الفن اللبناني يجب الانفتاح على العالم الخارجي. أنا لست خريجاً أكاديمياً فنياً، ولكني أتابع وأرصد وأقارن. أعمل في هذا الاتجاه في التطور الفني».
لوحات روحانا أصبحت في مدن عدة في العالم. من جبيل إلى بيروت، وباريس، نيويورك، شيكاغو، برشلونة، لندن، سيدني، دبي، عمّان، روما وغيرها.
رسم حتى الآن أكثر من 200 لوحة. بيع منها أكثر من 70 لوحة. وترك الباقي لمجموعته الخاصة.
يعرض حالياً في باريس. وقريباً في بلجيكا. وفي أول الربيع المقبل سيحطّ في بيروت.
يقدّر الدكتور روحانا عالياً الفنان اللبناني الذي يثابر ويجاهد لبقاء الفن اللبناني رائداً. ويعطي دوراً مهمّاً لمقتني اللوحات الذين يقدّرون الفن ويشجعون ويواكبون الحركة الفنية في لبنان. يعتبر أنّ قطاع الفن في لبنان ما زالت مسيرته طويلة. يلاحظ فارق الأسعار الكبير بين الفن اللبناني، وبين الفن الغربي والآسيوي. «الفن اللبناني لا يقلّ أبداً عن الفن الغربي من حيث الإبداع والتحديث».
