هذا
ابو هاني الذي تعلمنا منه الترتيل صغارا
، وكان يفتتح حفلات
النشاط المدرسي بترتيله
وابتهالاته ، كنا
في سنة ١٣٨٤ هـ فتيانا طلبة نجلس
معه عصرا بضفاف
مقهى من الصفيح يسمى :
( صندقة عُبِدْ )
الحضرمي ، على عدوة المستشفى
العام بحائل الجنوبية ، لنتقاسم الراي
جدلا ، ونتداول الحديث
هوى بلا بصيرة ، وكانت تنسرح امام النظرة شواهق اجا
والبدنة والخماشية وشعيب ابي جرف ، والزبارة ، والمطار القديم ، وبستان جبلة الجميل ، والاعيرف المحبوب وتبدو مباني
الطين حوله ، وهو جبل هاديء مطمئن الا من مدفع رمضان
القديم جدّاً بتلك القلعة فوق قمته !
الذي كان يعلن قدوم رمضان والاعياد والاضحى ، ومدفع الافطار ، ومدفع التنبيه بقدوم الفجر الاول في رمضان ، ومدفع يلتزم الناس بالصيام حين يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ..
وبين ربى حائل الحبيبة ، ورياض اريافها الفسيحة الناضرة ، وارباضها الجميلة الساحرة ..
تفتحت العيون للحياة نستقبل اول نسمة من نسمات الوجود ، ولقد كنا صبية ، اذا تاملنا في المنظور من قناني البيبسي كولا تعلونا الدهشة ( اذا ما فتح الغطاء أزبدت ، وأفل الازباد فيها وامتصح فذهب وانقطع ) والشوكولاته والبسكويت المزبد وبسكويت على طلبك مصفوفا على رفوف الدكانة ، كلنا صبية معدمون لا نملك قروشا لنيله ، فنعدو الى الاماني والتفكير في المستقبل والراتب والدراهم ، والمعقول واللامعقول ، امانياً واحلاماً ، فناخذ في مطارحة الكلام على امور الادب والثقافة ، ومضاعف المعرفة لولا صبي اكبر منا سنّاً متقدم علينا في صفوف المدرسة يدعى اسماعيل الاصبح .. سفيه له في البخل فرع وعنصر ، حجر من جبل جلذية لا يرشح ابدا .. يجلس على مقربة منا ، رضي لنا بالدون وامتدح ، بزعم انه جُذيل مشارق الثقافة المحكك ، وعُذيقها المُرجّب ، حين شرع في الحديث ! وتمنى لنا العون في مهنة التعليم ، يرحمه الله :
لسانك معسول ونفسك شَحّة
ودون الثريا من صديقك مَالَكا
ابو هاني يجمع في منزله حشدا غير موفق من اشرطة الة التسجيل القديم لاستماع الربابه والفنون الشعبيه ، مشغوفون بمسلسلات صوت العرب بحسبان خطب احمد سعيد ، واذاعة ام درمان ، وصوت الحق من بغداد واغاني حضيري ابو عزيز ! وركن البادية من اذاعة المملكة العربية السعودية
الذي سمعنا اولياته اذ بدأ عام ١٣٧٦هـ بتقديم الاديب الاعلامي المرحوم مطلق مخلد الذيابي ، والمنشد عبدالله العلي الصفراني ، وبعده بادية اذاعة الكويت ، ومضافة ابي محمود باذاعة عمّان وصاحبه الحاج مازن ، وعازف الربابه الاردني المعلم عبده ، وفلكلور الفن والاغنية والمقام الاردنية اوان ذاك ، الباسم للحياة والامل عبر المايسترو والكورس ، والناي معهم غنى في هجمة الليل ، فضلا عن حشد هائل من اصوات الفن :
قد أ يش الساعه يا ست
الساعه بايدك ما احلاها
مطلع اغنية فولكلور شعبي سمعناها تغنيها فنانة اردنية عبر اذاعة عمان في اواسط الخمسينات من القرن العشرين الماضي ، يوم كانت ( الساعة ) حلية غالية الثمن ، ومعاصم البدويات معطلة منها ، غير حالية
اي تناقض صاحبنا المرتل ؟ من طيبة الطيبة الى حائل الى طويق والعارض المنقاد بيننا وبينك ..
عموما : لا تثريب عليك ؛ ما من بلد ناهض تقدمت فيه العلوم الحديثة الا ظهرت فيه جماعات علمية وهيئات متخصصه وادارات حكومية قوية تشتغل بتسجيل الفلوكلور ، والفنون الشعبية وتصنيفها ودراستها ، ففي ادبنا الشعبي كنوز لا تقل روعة وسحرا لمن يتذوقها ، عن الآداب العالمية الآخرى ، ومنها الأدب العربي نفسه ، بل انه ليمتاز بصدوره عن غير روية ودون تفكير ، في مقابل ما يتكلفه الادباء والفنانون في آثارهم الادبية والفنية من دراسة واسعة ، وتفكير عميق ، بل تكلف احيانا ،
وليس ينقص الادب الشعبي الا ان نتذوقه اولا ، ثم نفتش عنه ثانيا ، اما تذوقه فلن يتطلب منا الا ان نحسن قراءته ، وايقاع اوزانه ، ونقابل قوافيه بحسب ما تشتمل عليه المقطوعة من الفقرات ، وفيما عدا هذا فان المعاني التي يشتمل عليها الادب الشعبي لا تقل جودة واختيارا في موضوعها ومناسباتها عن الآداب الراقية ، ان لم تزد عليها ، فهو التعمق للحقيقة والروح الطبيعية الصادقة التي يتميز بها رجل الشارع ببساطته وصفاء فكرته ، ونظرته المجردة للامور ، واما الكشف عنه فسهل ميسور ، ولا ينقصه الا دافع الاهتمام القائم على التقدير الصادق لما لهذا الادب من اهمية بوصفه المرآة التي تنعكس عليها حياة السواد الاعظم من الشعوب : تجد هذا الادب عند الفلاح الجالس في الظل امام السواني ، والعامل
الذي يبني بالطين بيوتا يحدو بالقصائد ، فوق السَّلَّم في افواه البناة على شعف جدران المبنى :
عاش بندر حَايَل الشيخ بالجره
لين اطاعه شوق مياح الاردان
وتبعوه الناس يمشون بالجِرّه
قاضبين سلوم أهالين وجِدّان
عشاء الشغاغيل ما يرث الخله
حمود باع الباب ما قال : عجزان
..