جمال
الشعر الجاهلي واصالته
١/١
شعر
خرج من بيئة الصحراء ،
من قلب الطبيعة الحرة التى لا تعرف القيود والحواجز ؛ من تكتلات بشرية وحجرية : مدائن وحيطان وسقوف تحجب الأفق ، وزحمة من السكان والآلات والمصانع تتنفس فيها فتفسد أجواءها . لذلك كان الشعر الجاهلى من أصفى الشعر وأعلاه نفساً ، كان شعر الوحى والإلهام ، شأنه في ذلك شأن الشعر القديم فى عهد هوميروس . ومعنى ذلك أنك لن تجد فى الشعر الحديث ، وبالأخص في الشعر الغنائى ؛
هذا الصفاء مع علو النفس مهما أوتى الشاعر من قدرة وعبقرية
، نحن لا نزعم أن الشعر الذى يصنعه بشر ، ، أيًا كانت قوته فى الارتجال والتغريد بما سجا عليه الطبع
خال من الصنعة ، ولكن هناك فرقاً بين الشعر القريب إلى الفطرة النقية ، الذى لم تغلب فيه الصنعة على الطبع كالشعر الجاهلى ، وبين الشعر الذي تغلب عليه الصنعة كالشعر المتأخر . وقد عبر المتنبي عن هذا المعنى بقوله :
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفى البدواة حسن غير مجلوب
والتطرية هنا هي الصناعة ، والتكلف والتزيين
والتزويق التي هي من مستلزمات العيشة الناعمة ، وروح الاجتماع في البيئة الحديثة
ولا يزال الشعر الغنائى الجاهلى أعلى شعر غنائى فى العالم . وكان المرحوم إسماعيل صبرى يقول : إنه يمتاز على الشعر الغربى بمقطعاته، بالبيتين أو الثلاثة أو الخمسة أو الستة التى تفجؤك روعتها ، حين تهز أجنحتها ، وتطير في سماء العاطفة والوجدان .
ولاشك أن المقطوعة القصيرة أكثر قوة وتماسكاً في ارتفاعها من القصيدة . والشاعر الإفرنجي يعرف كيف يبنى القصيدة ويخلق منها وحدة يشد بعضها بعضاً ذلك لأن روح التنسيق والترتيب متأصلة في حياة الغربى الفكرية وفى كيانه الاجتماعي ، في حين أن الأعرا
بي منفرد متفرد ، يرتجل الشعر كما يرتجل الممالك . ولكنه لا يبنى القصيدة ولا يؤسس الملك إذا نظم أو فتح . وقد تكون الروح الفردية من خصائص الشعر الغنائى ومن أسباب قوته . ولكنها في القصيدة تؤدى إلى فصم الوحدة العامة ؛ ومن هنا كان البيت مستقلا عن البيت في الشعر العربي ، وكان المطلع أهم بيت في القصيدة ، ومن هنا كانت المعلقات غير محكمة البناء أو غير مبنية إطلاقاً ، لأن كل معلقة ليست سوى مجموعة قطع من الشعر في أغراض مختلفة لارابطة بينها ، وقد يكون التشبيه مثلا مجرد وسيلة يحتال بها الشاعر للانتقال إلى موضوع آخر ، كتشبيه الفرس أو الناقة في سرعتها بحمار الوحش أو بالظليم ، أو بالثور الذى يسهب الشاعر في تصويره والتغنى به باعتباره موضوعاً مستقلاً بذاته ، لا تربطه بما تقدم إلا صلة ضئيلة ؛ لا وجود لها في الواقع ولكننا إذا نظرنا إلى المعلقات كشعر غنائى وجدانی ، نظرنا إلى عيوبها من حيث البناء والتركيب نظرة أخرى ، فإن الروح الغنائية تنتظم القطع المختلفة في كل معلقة وتؤلف بين أفانينها ، وتنهض بها أسراباً تغرد في أجواز الفضاء
، والشعر الجاهلي جميعه يكاد يكون شعراً غنائياً والشعر الغنائى عند الإفرنج كان يتغنى به قديماً نم سمی به کل شعر صادر عن العاطفة الصادقة والوجدان ، ينطلق من حنايا القلب إلى حنايا الطبيعة ، بين أرضها المتبرجة وسمائها الزاهية ، شجى ونغماً وحنيناً . وإنا لنجد في كتاب الأغانى والحماسة ودواوين العرب شعراً غنائيا من خالص الشعر يمتاز ، كما قلنا ، بصفائه على كل شعر في العالم . وحاسته الفنية ، وهناك ميزة أخرى للشعر الجاهلى ؛ هي ظهور حاسة الطبيعة والحاسة الفنية بشكل واضح فيه . وإنه لعجيب أن الأعرابى الجلف الذي يعيش في الخشونة كان لا يقل عن الغربي في قوه حاسته ( الطبيعية ) مع أن عبادة الطبيعة والفن والتصوير والنحت وما إليهما هي من مظاهر الحضارة الحديثة وأكثر من ذلك أن تصوير الحيوان في
الشعر الجاهلي ، أكبر دليل على قوة الحساسية الفنية عند العرب لا نظير له في الشعر الغربي ، وقد نجد له بعض الشبه في التصوير الزيتي والنحت عند الإفرنج ، ولعل منشأ هذه القوة الخارقة عند الأعرابي ؛ هو تلك السليقة النادرة التى يمتاز بها ، وقد وصف شاعر قديم
نفسه بأنه « سليقى يقول فيعرب» . وهذه السليقة يمدها
ذكاء بارق ، وحس صاف ، كالمرآة تنعكس فيه ظلال الكون وأضواؤه . ولا شك أن انعدام الحاسة الفنية عندنا ، وعند المتأخرين بصفة عامة ، هو الذي باعد بيننا وبين الشعر الجاهلى ، وجعل الشراح جميعاً ، وشيوخ النحو يئدونه تحت شروحهم العافشة المظلمة ، وقد سمت عاطفة الأعرابي وحد به على الحيوان وحبه له بالشعر إلى أعلى مراقيه ، وكان ذلك مظهراً من أجل مظاهر الحضارة عند البدوى جاء في كتب اللغة : قانى له الشيء
: دام ، وقال يصف فرساً : قانى له في الصيف ظل بارد )
شطر واحد من الشعر الغنائى ، ولكنه شطر من دولة الجمال والجلال ، وقطعة من كنوز العرب الضائعة .