فلما
توثق منها قال
: أرسلي إلى القوم فليأتوا ، فجاءت بنو عبد الله ابن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع ، وجاء الفرزدق فَحَمِدَ الله واثنى عليه ثم
قال : قد علمتم أن النوار قد ولتني
،أمرها وأنا أشهدكم أني قد زَوَّجْتُها من نفسي على مائة ناقة حمراء سودِ الحدق
، فنفرت النوار من ذلك وناكَرْتُه وتردّدت إلى حكام البصرة
، فتوقفوا في أمرها ، وأبوا أن يطلقوها منه حتى يشهد لها الشهود، وأعياها أمر الشهود خوفا من الفرزدق وكان ابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعى له بالخلافة فيهما ويُخْطب له على منابرهما ، فهمت النَّوَارُ برفع أمرها إليه ولم تجد
من يحملها، فأتت فتية من بني عدى بن عبد مناةً يقال لهم بنو النسير، وكانت بينها وبينهم قرابة فسألتهم بالرحم
، فأقسمت عليهم أمهم ليحملُنَّها فحملوها، فبلغ ذلك الفرزدق فاستنه جماعة من أعيان البصرة فأنهضوه
، وأوقروا له عدّةً من الإبل وأعانوه بنفقة فتبع النَّوَارَ وقال :
لَعَمْرِي لَقَدْ أَرْدَى النَّوَارَ وَسَاقَهَا
إِلَى الْغَدْرِ أَحْلامٌ قليلٌ عُقُولُهَا
أَطَاعَتْ بَنِي أُمّ النُّسَيْرِ فَأَصْبَحَتْ
عَلَى شَارِفٍ وَرَقاءَ صَعْب ذَلُولُهَا
مُعَارِضَةَ الرُّكْبَانِ في شَهْرِ نَاجِرٍ
عَلَى قَتَبٍ يَعْلُو الفَلاَةَ دَلِيلُها
وَمَا خِلْتُهَا إِذْ أَنْكَحَتْنِي وَأَشْهَدَتْ
عَلَى نَفْسِهَا بِالْغَدْرِ زَالَ زَوِيلُهَا
أَبَعْدَ نَوَارٍ ءَامَنَنَّ ظَعِينَةٌ
عَلَى الْغَدْرِ مَا نَادَى الْحَمَامَ هَدِيلُهَا
وَقَدْ سَخِطَتْ مِنّي النَّوارُ الَّذِي
بِهِ قَبْلَهَا الأَزْوَاجُ خَابَ رَحِيلُهَا
وإِنَّ امْرَءًا أَمْسَى يُحْبَبُ زَوْجَتِـي
كَسَاعِ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
وَمِنْ دُونِ أَبْوَالِ الْأُسُودِ بَسَالَةٌ
وأَيْدِ طِوَالٌ يَمْنَعُ الضَّيْمَ طُولُهَا
وَمَا أَننَا بِالنَّائِي فَتَنْفِي قَرَابَتِي
وَلا بَاطِلٌ حَقِّي الذي لا أُقِيلُهَا
وَلَكِثْنِي الْمَوْلَى الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ
وَلِيٌّ وَمَوْلَى عُقْدَةٍ مَّنْ يُجِيلُهَا
فَدُونَكَهَا يَا ابْنَ الزِبَيْرِ فَإِنَّها
مُولَّعَةٌ يُوهِي الْحِجَارَةَ قِيلُهَا
وَمَا خَاصَمَ الأَقْوَامَ مِنْ ذِي خُصُومَةٍ
كَوَرْهَاءَ مَشْنُوءٍ إِلَيْهَا حَلِيلُهَا
وإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَعَالَمُ
بِتَأْوِيلِ مَا وَصَّى الْعِبَادَ رَسُولُهَا
إذَا قَعَدَتْ عِنْدَ الْإِمَام فَإِنَّنَا
نَرَى رِفْقَهُ مِنْ سَاعَةٍ يَسْتَمِيلُها
ثم إن الفرزدق لم يدرك النوار حتى قدمت مكة فاستجارت بزوجة ابن الزبير رَضِي اللَّه عَنْهما، واسمها خولة، وقيل تماضر بنت منظور بن زبَّان بن سيار الفزاري. ولما قدم الفرزدق مكة اشْرَأَبَّ الناس إليه فنزل على حمزة بن
عبد الله بن الزبير ومدحه بقوله :
أَمْسَيْتُ قَدْ نَزَلَتْ بِحَمْزَةَ حَاجَتِي
إِنَّ الْمُنَوَّة باسْمِهِ الْمَوْثُوقُ
بأبي عُمَارَةَ خَيْرٍ مَنْ وَطِئَ الحَصَا
وَجَرَتْ لَهُ فِي الصَّالِحِينَ عُرُوقُ
بَيْنَ الْحَوَارِيِّ الأَغَرُ وَهَاشِمٍ
ثُمَّ الخَلِيفَةُ بَعْدُ والصَّدِّيقُ
وقال أيضاً يمدحه :
يا حَمْزَ هَل لَّكَ فِي ذِي حَاجَةٍ عَرَضَتْ
أنْضَاؤُهُ بِمَكَانٍ غَيْرِ مَمْطُورِ
فَأَنْتَ أَوْلَى قُرَيْشٍ أَنْ تَكُونَ لَهَا
وَأَنْتَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْظُورِ
بَيْنَ الْحَوَارِيِّ وَالصِّدِّيقِ فِي شُعَبِ
نَبَتْنَ فِي طَيِّبِ الإِسْلَامِ وَالْخِيرِ
فَكَانَ كُلُّ مَا أَصْلَحَ حَمْزَة مِنْ شَأْنِ الفرزدق بالنّهار مع أبيه أفسدته بنت منظور ليلا فقال الفرزدق :
أَمَّا الْبَنُون فَلَمْ تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُمْ
وَشُفْعَتْ بِنْتُ مَنْظُورِ بْنِ زَيَّانَا
لَيْسَ الشَّفِيعُ الدِّي يَأْتِيكَ مُؤْتَزِرًا
مثلَ الشَّفِيعِ الَّذِي يَأْتِيكَ عُرْيَانَا
فبلغ ابن الزبير شعره، ولقيه على باب المسجد وهو خارج منه، فضغط حَلْقَه حتى كاد يقتله ثم خلى سبيله. وكان ابن الزبير ، رضي الله عنه، ايدا شديد القوى. ثم دعا النّوَار فقال إن شئتِ فرَّقتُ بينكما وقتلته وأرحْتُ المسلمين من شَرِّ لسانه، وإن شئت سيرتُه إلى بلاد العدو. قالت ما أريد واحدة منهما.
قال فإنه ابن عمك وهو فيك راغب فأزوجه إياك، قالت نعم فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم، فقبل الفرزدق وسأل هل بمكة أحد يعينه؟ فَدُلَّ على سلم بن زياد ابن أبيه، وكان ابن الزبير قد حَبَسه فقال الفرزدق يمدحه :
دَعِي مُغْلِقِي الْأَبْوَابِ دُونَ نَوَالِهِمْ
وَمُرِّي وسِيرِي بِي هَبَلْتِ إِلى سَلْمِ
إِلَى مَنْ يَّرَى الْمَعْرُوفَ سَهْلاً سَبِيلُهُ
وَيَفْعَلُ أَفْعَالُ الْكِرَامِ الَّتي تَنْمِي
٣ / ١